(“”غياب الثّقة” المبتدأ، و”فرصتنا الأخيرة” الخبر!))لو أردتُ أن أجعل صفحتي مقياساً انطباعيّاً لمواقف النّاس من ممارسات “السّلطة”، وخططها ومقاصدها، كموضوع ما سُمّي بـ”الفتنة”، وموضوع “الّلجنة الملكيّة لتحديث المنظومة السّياسيّة”، فإنّ الموقف الغالب والظّاهر هو:”عدم الثّقة بالسّلطة”، وليس مجرّد “التّشكيك بالنّيّات والمقاصد”؛ فهناك انطباعٌ عام يظهر لي من منشورات أصدقاء الصّفحة، وغيرهم ممن تُظهرهم “خوارزميّات الفيسبوك”، أنّ ما تفعله “السُّلطة” لا يخرج عن مقصدين: مقصد “خفيّ” محصور في المصالح الضّيّقة لـ”النّخبة الحاكمة”، من أجل المواءمة بين “الشّروط الدّوليّة والإقليميّة” من جهة، و”الشّروط الدّاخليّة” من جهة أخرى، بما يضمن بقاء المصالح الضّيّقة لمحتكريها.ومقصد “خفيّ” آخر لا يتناقض مع الأوّل، بل يدعمه، وهو مقصد “الإلهاء”، وشراء الوقت، وحرف النّظر عن الأهمّ، وعن السّياق الكبير الّذي يُسبّب النّظر إليه مشكلات لـ”السُّلطة”.وحين أصف هذه المقاصد بـ”الخفية” فمن باب وصفها بالمقارنة بالظّاهر الإعلاميّ من خطاب “السُّلطة” الّذي يتحدّث عن “مصالح الأردن”، و”مصالح الدّولة الأردنيّة”، وعن “الإصلاح”، أو نسخته الجديدة “التّحديث”، الّذي يختلف عن “الإصلاح” بأنّه لا يُقرّ، ولو لفظيّاً، بخلل وفساد، وكأنّ الموجود جيّد لا يعاني خللاً ولا فساداً، وكلّ ما في الأمر أنّ نسخة جديدة من “الانتخابات والأحزاب” أصبحت متاحة في “متجر التّطبيقات السّياسيّة”!وهذا الانطباع الّذي أجده في عالمي التّواصليّ الافتراضيّ، لا يأتي خالياً أو مجرّداً من الأدلّة والشّواهد، حتى يكون مجرّد انطباعات، بل هناك مجموعة من الأسباب تُساق لتأكيد صوابيّة هذا الانطباع، منها:1. ذاكرة متخمة بلجان و”مواثيق”، منها “الميثاق الوطنيّ الأردنيّ 91″، وغيرها من الّلجان والمواثيق و”المبادرات”، و”النّقاشات”، لم تكن لها نتائج على الواقع إلا “الانتكاسة”، و”الانقلاب” على كلّ ما يُمكن أن يبدو “تقدّماً” نحو “واقع أفضل”!فبأيّ مسوّغ و”مبرّر” يتقبّل الأردنيّون أنّ “الّلجنة الجديدة” ستأتي بما لم تأتِ به الأوائل!2. ممارسات “السّلطة” نفسها الّتي تحفّ بأجواء “الحديث عن التّحديث”؛ فمن بدهيّات أجواء الثّقة أن تكفّ “السُّلطة” عن ممارساتها الّتي جذّرت “غياب الثّقة”، و”انعدامها”؛ “نقابة المعلّمين”، و”المعلّمين” مثالٌ صارخ، واختيار “رئيس الّلجنة التّحديثيّة” مثالٌ أصرخ! فلو كان “دولته” خير رجال الدّولة والسّياسة والإصلاح والتّحديث، أقول “لو” كان، فإنّ اختياره في ظلّ ما يرافقه من انطباع شعبيّ رافض ومشكّك، ويرتبط بالخروج من “بيت الحكم” على وقع الشّارع، فإنّه يفقد “براجماتيّاً”، وليس “مبدئيّاً” وحسب، صلاحيّة قيادة تحديث يُمكن أن يثق به النّاس؛ فعمليّات التّحوّل الّتي تقوم على صراع إرادتين، أو تنافسهما، أو تفاوضهما، يجب أن تُقاد من أطراف تنال الثّقة من الجميع، ولكنّ “السُّلطة” اختارت من تثق به وحدها، وكأنّ البلاد لا تجد مَن يثق به النّاس، وتثق به “السُّلطة” معاً!3. السّبب الثّالث منبثق عن الثّاني، بل يُمكن أن يكون مُنطلَقاً له، وهو “مركزيّة الأمنيّ” بكلّ مستوياته على كلّ شيء؛ فـ”مأمون الولاء المطلق” من “رجال السّياسة ونسائها” هو موضع “الثّقة”، ولا اعتبار للقدرة والكفاءة والكفاية؛ فلا يضرّ مع “الولاء المطلق” ذنب، ولا تنفع مع “الولاء المشروط”، أو “الولاء المشكوك” فضيلة!4. يقول المثل الأردنيّ:”شايف الضّبع، وبقصّ أثره”! إشارة إلى أنّ البحث والنّقاش و”قصّ الأثر” مع رؤية “الضّبع” بأمّ أعيننا لا تكون إلا تضييعاً لـ”الصّيد”، ومنعاً من الوصول إليه، وكثير من الأردنيّين، وأنا منهم، يرون أنّ ما يُراد من “الفتنة”، وما يُراد من “الّلجنة” كان بالإمكان تحقيقه من غير كلّ هذه الإجراءات، وقصّ الأثر؛ فـ”الدّولة”، على سبيل المثال، عدّلت في “الدّستور” حين شاءت بما شاءت بيسر! وأجرت “انتخابات” بقوانين من كلّ لون وشكل، ولم يكلّفها الأمر إلا أن تريد فتفعل. ولكنّها كانت تفعل ما تريد حصراً.لذلك يبدو “انعدام الثّقة” مسوّغاً، و”مُبرّراً”، بل هو الموقف الوحيد الّذي يُمكن وصفه بالواقعيّة والعقلانيّة و”البراجماتيّة”، ولا أدلّ على ذلك من احتشاد المؤيّدين لإجراءات “السّلطة” من أعضاء “الّلجنة”، ومن غيرهم للتّأكيد على أنّ “انعدام الثّقة” هي المشكلة الكبرى، وهنا سأستعير من دروس الأزمتين الماليّتين الكبيرتين: أزمة عام 1929، وما عُرف بـ”الكساد الكبير”، والأزمة الاقتصاديّة الماليّة عام 2008، فقد شاع منذ الأزمة الأولى عام 29 أنّ أسبابها:- ذعر المودعين، وخوفهم، وعدم ثقتهم بأنظمة الإيداع البنكيّ أدّى إلى سحوبات كبيرة ومتزامنة للأموال المودعة، أدّت إلى “سقوط البنوك والسّوق الماليّ”!- صغار المودعين كانوا أكثر ذعراً، وبسبب ذعرهم حصل ما حصل؛ أي إنّ صغار المستفيدين ممن تكون الآثار مضاعفة عليهم هم سبب الأزمات.- “غياب الثّقة”، أو “ضعفها” بالمنظومة الماليّة والاقتصاديّة هو السّبب، والعلاج هو “تعظيم الثّقة”.والواقع أنّ هذه الأسباب هي من باب وضع “العربة” أمام الحصان، أي جعل “النّتيجة” سبباً؛ فالأزمات تحصل لأسباب منها:- فساد المنظومة هو ما يؤدّي إلى “الذّعر”، واستشراف “سقوط المنظومة” لفسادها، هو ما يُسبّب الذّعر، وليس الذّعر ما يؤدّي إلى السّقوط.- كبار المستفيدين من أيّ منظومة هم الأكثر ذعراً، والأكثر حساسيّة، واستشرافاً للسّقوط القادم، والفساد الحاضر، وغالباً ما يكون “ذعرهم” بسبب “معرفتهم وقربهم” سبباً في ذعر صغار المستفيدين.- “قوّة الثّقة” هي الّتي تجعل الكوارث ممكنة؛ الّذين وثقوا بالبنوك والسّوق الماليّ على حساب “بلاطة بيتهم”، أو “الفرشة على سريرهم” هم من خسروا أموالهم!فهل نحن مقبلون على تحوّلات “سقوطيّة”، و”إسقاطيّة”، تمسّ جذور “المنظومات الحاكمة”، ويُراد لنا أن نكون “أسباباً متوهّمة”، و”متورِّطة” فيها؛ ليقال: انعدام ثقتكم، وتشكيكم، وكثرة اعتراضكم، و”ذعركم”، هو ما سيؤدّي إلى تضييع “فرصتنا الأخيرة”! وهي “فرصة مزدوجة”؛ ظاهرها “تحديث المنظومة”، وباطنها “الإبقاء على جذر المنظومة” بما يضمن أن يبقى “المستفيدون” هم هم، وهم “أهل الولاء المطلق الأعمى”، بغضّ النّظر عن “التّخصّصات الجهويّة والعشائريّة”؛ فعقد “الولاء السّياسيّ والاقتصاديّ” الضّامن لمصالح نخبتها هو “العقد الاجتماعيّ” الوحيد العابر لكلّ “أردن” عرفناه وسنعرفه! إنّ “غياب الثّقة” وانعدامها أمرٌ خطير ومقلق جدّاً، ولكنّه مفيد وضروريّ في سياق مشروعيّة أسبابها، وكثرة الشّواهد المنتجة لها، إنّها جرس إنذار يستشعره “صغار مودعي آمالهم وأحلامهم وواقعهم ومستقبلهم” للبحث عن “ملاذات آمنة” حتّى لا يكونوا “ضحايا التّحوّلات” لحساب “كبار المستفيدين”. ولكن تجارب التّاريخ لا تخبرنا عن نجاحات كبيرة وكثيرة لهؤلاء “الصّغار والبسطاء”؛ فالتّحوّلات تُخرج “كباراً” لصالح “كبارٍ غيرهم”، والنّاجون من “الكبار” هم القادرون على التّكيّف والتّحوّل و”الانقلاب”!د.نارت قاخون
المنشور السابق