كتب الباحث و المفكر الاردني الدكتور فؤاد البطاينة,,
من يتعمق في أسباب فشل الأنظمة العربية في سياساتها الخارجية والداخلية وما جره ويجره هذا الفشل من كوارث وطنية وقومية ومن انحدار في قيمة الإنسان العربي، لا يمكن له أن يغفل عن الصراع بين الأنظمة وشعوبها. هذا النوع من الصراع انتهى في العالم المتطلع نحو الحرية ودولة المواطنة والبناء والتنمية. ولكنه ما زال قائماً في بلادنا العربية. ومما يعمقه ويطيله هو تجاهل الأنظمة لوجوده وتبنيها زيفاً لخطاب الشعب ومطالبه واحتياجاته بصلافة مقرفة دون أن تمارس على الأرض إلا ضده وتعمق هذا الضد مع كل صوت يرتفع محتجاً.
الأردن أكثر الدول العربية حاجة للإصلاح الجذري وتماسك جبهته الداخلية، ولتصالح النظام مع شعبه، كدولة مستهدفة وتعاني التفكيك، والخراب فيها وصل مداه ويجري تجاهله، وفقدت عملياً أية رابطة بين مكوناتها. وأصبح الصراع فيها مكشوفاً بين الشعب ونظامه ولا أفرق هنا بين النظام وحكوماته. نتفق مع الملك في المنطوق والشكوى ونختلف بالنوايا والممارسة. هذا النظام يجب أن يصلح وهذه الدولة يجب أن تبقى وهذا الشعب يجب أن يكون بمضون الكلمة واستحقاقاتها. سلوك وممارسات النظام على يد حكوماته وأجهزته لم يُبق من بين ملايين الشعب في الأردن غبيا واحداً ولا مُغفلاً. ولا أدري لأين ستوصلنا سياسة النظام في تأبط الاستغباء تأبطاً. فقد ضاق أفقه ونفذت حيل حكوماته وأجهزته حتى هبط مستوى العجز عندها على المواجهة المنطقية والقانونية الى مرحلة تجحيش القوانين. ومثالي في هذا أدوات مواجهتها لحزب الشراكة والإنقاذ، والتي يهزأ منطق الطفل من منطقية منطوقها وطبيعة سندها لدعوى حل الحزب. إنها تمسك القانون الثور من ذيله. وقبل ذلك كان نموذج حل نقابة المعلمين وسجن ناشطيها
لا أعتقد أن النظام سينجح في تمرير أي ادعاء بتعاطفه مع شعب لم يعد يقنعه الكلام ولا الوعود ولا رمي المسئولية على المرؤسين في رسائل لا يُفترض لمصداقيتها أن تكون مفتوحة، ولا بإشغال الشارع بمشاكل مصطنعة تُعمق من أزمة الدولة والصراع الداخلي ولا جيش السوس والديدان والطفيليين. ولا شيء يُغني عن التعامل مع الواقع بواقعية لمواجهة التحدي الكبير. فلا خلاص آمن أو نجاة لجهة في الأردن بما فيه الدولة والوطن إلا بتوفر النية ثم الإرادة لدى القيادة بجدية الإصلاح السياسي الناجز وهذا هو التحدي. الأردن في خطر مباشر ومدعى به كوطن من قبل العدو الصهيوني والهجمة قائمة، بينما إرادة التغيير مستعصية. ولا يمكن للأمور أن تستقيم بالاستفراد بالدولة والقرار، حتى أصبح الأردن في قاع الدول المُستبدة. ولا بترك الحكومات والأجهزة تفترس العدالة الإجتماعية ومؤسسات التنمية السياسية المدنية وعلى رأسها الأحزاب الرافضة للتدجين. ليترك النظام كل مراوغة موسمية، فالأردنيون لم يعودوا يمتلكون شيئاً والظروف جعلتهم يحظون بنسبة من أعلى النسب في دول العالم بالوعي السياسي وروح التحدي.
الإصلاح السياسي الجذري المطلوب مسألة متصلة بوجود ألياته وسلامتها وصولا للقرار السياسي \ الإداري النابع من ارادة الشعب في سلطات ثلاث حرة ومالكة لولاياتها، وبما يضمن سلامة إدارة قطاعات الدولة على قياس تلك الإرادة التي وحدها تحقق مواطنية إنسان الدولة وحقوقه والعدالة الإجتماعية والتنمية المستدامة وبالتالي حماية الدولة والوطن. وإن قوام هذا الإصلاح السياسي هو الأحزاب السياسية ومنها ينبثق البرلمان ومن البرلمان تنبثق الحكومات الشعبية الشرعية.. وإذا كنا متفقين على هذا فنحن نتكلم عن عملية تحول ديمقراطي وعن تعديلات دستورية تخدم الغرض.
وعليه فإن الإصلاح السياسي الحقيقي عملية بناء مترابطة الأليات. قاعدتها هي الأحزاب الحرة وقانون الأحزاب. ورافعة الأحزاب هو قانون الإنتخابات النيابية الذي يضمن وصول هذه الأحزاب الى مجلس الشعب أو البرلمان لتتحقق منه الفكرة الحزبية بتداول السلطة على هدى الرؤى الشعبية. والخلاصة أن الدلالة الأولى لحسن نية الأنظمة العربية في التحول الديمقراطي هي الأحزاب الحرة المحمية بقوة القانون وسمو الهدف. هنا يصبح أمامنا سؤالان، الأول، هل تسمح الأنظمة المستبدة بشكل عام بهذا ؟ الجواب، إن ترك كرسي السلطة طوعاً صعب لكنه ممكن عندما تتوفر الحكمة. والثاني، تخصيصاً للأنظمة العربية المُستبدة، هل إن توفرت لها الحكمة والنية تستطيع فعل ذلك ؟ الجواب ,,لا,, إن كانت من الدكتاتوريات غير الوطنية
هنا نأتي للحقيقة المنبثقة عن انظمتنا المستبدة وليست حرة ولا وطنية، وعقابها إن خالفت سياسة سيدها هو عقاب العميل المنتهي دوره تحت طائلة الإبتزاز والإذلال أو الموت وليس مجرد العزل والإستبدال. أما الحقيقة هنا فإن العدو الأمرو- صهيوني لا يقبل الديمقراطية في الدول العربية ودول المنطقه ككل، ولكنه يُلزم أنظمته العربية بسلوك سياسي غير عنفي مع شعوبها لمنعها من القيام بثورة عليها. ولذلك فهو يشترط عليها من جملة أمور لبقائها وعدم تغييرها أن تُرضخ شعوبها وهي راضية عنها دون استخدام العنف لضمان استقرار دكتاتوريتها الناعمة. ومن هنا فإن العدو يطلب من هذه الأنظمته أن تعتمد أليات النظام الديمقراطي وبناء مؤسساته شكلياً. ونضحك على أنفسنا إذا اعتقدنا بأن نظاماً عربياً من هذا النوع من الأنظمة يقبل بقانون احزاب يؤدي للفكرة الحزبية، أو يقبل بحزب يستعصي على التدجين. فهذه الأنظمة تحتكر السلطة وتعمل بنظام الحزب الواحد المسلح بالجيش والأمن هو حزب النظام أو الرئيس أو الحاكم. ولها باستبدادها مصالح خاصة
من هنا نصل للمثال الأردني بموقف النظام وتعامله مع حزب الشراكة والإنقاذ ونحكم بأنه مثال على مستوى الوطن العربي. لست عضواً في هذا الحزب لكني كنت واحداً من أوائل مؤسسيه وكُتاب مبادئه وأهدافه وأصحاب القسم. وأقول أن مؤسسيه لم يكونوا غافلين عن عبثية تحقيق الفكرة الحزبية في ظل النهج السياسي القائم ولا عن صورية وديكورية الأحزاب القائمة، ويعلمون بأن حزبهم سيكون كغيره أمام خيار التدجين أو الحل، ولكنهم مضوا ليكون الحزب قدوة في الساحتين الأردنية والعربية في الثبات على المبادئ والقيم، وفي الإستعصاء على التدجين السياسي، والتصميم على اختراق الحالة الحزبية الأردنية الديكورية باتخاذ سياسة نضاليه توعوية تمارس مبادئها ودورها بصلابة في ظل الدستور..
الجُرم الحقيقي لهذا الحزب الذي تحمّل أعضاؤه الكثير من مضايقات الأجهزة الأمنية، هو نجاحه بالإنسجام مع مبادئه وأهدافه واستقلالية قراره وفرض نفسه النموذج الحزبي المطلوب شعبياً، وترافُق هذا النجاح مع عجْز النظام تماماً عن إيجاد ثغرة أو شبهة قانونية أو أمنيه أو أخلاقية واحدة ارتكبها الحزب خلال مسيرته لينفذ منها لحل الحزب سيما ويرأسه أحد أعلام الفقه الدستوري في العالم (د. محمد الحموري). فما كان من الحكومة وبتعليمات من الأجهزة الأمنية إلّا أن لا تستحي من تقديم دعوى لحله كحزب سياسي بتهم إدارية شكلية تعود لسنين بداية عمل الحزب ومنها التأخر في تصديق عقد إيجار مكتبه من البلدية والإحتجاج على توقيعه من قبل هذا دون ذاك أو التأخير بتقديم الموازنة، وكأن المسألة بين بنك تجاري وعميل له لا بين دولة وحزب سياسي. أليس هذا تجاوزاً على منطق الدول والمسئولية السياسية وأقصى الاستهتار بمفهوم التنمية السياسية على مذبح إعدام المعارض السياسي والرأي الأخر. ألا يُعَبر هذا السلوك عن هشاشة النظام وهلعه من بذرة ديمقراطية جادة في تربة الأحزاب الحقيقية ؟. إن أصرت الحكومة على حل الحزب فسيكون هذا إحراجاً للقضاء واعتداءً على الحياء وعلى كل مواطن، وتصميماً على النهج الفاسد. الأردن ملئ بالرجال. يموت أصحاب الفكرة وتُغلق المؤسسات لكن الفكرة الصالحة تبقى عهدة الرجال حتى تنتصر.
كاتب وباحث عربي